فتنة الهواتف الذكية: ظهور الاعور الدجال

في أحد الأحياء القديمة، كان هناك رجل يُدعى زيد، عُرف بين الناس بصفاء قلبه وبساطة عيشه. لم يكن يملك من الدنيا إلا كوخًا صغيرًا، وزوجةً صابرة، وطفلين يملآن البيت ضحكًا. كان يقضي نهاره في الحقول، يسقي الزرع بيديه، ويعود عند المغيب ليجد أسرته بانتظاره، فيجلس بينهم يحكي لهم قصصًا من ذاكرته، كأنها حكايات من زمن آخر.
وذات يوم، دخل قريته رجل غريب يحمل في يده صندوقًا لامعًا يسطع منه نور عجيب، وقال للناس: "في هذا الصندوق عوالم كاملة، أحلام بلا حدود، وأسرار لا تُرى بالعين."
انبهر أهل القرية، وأخذ كلٌّ منهم يقترب ليجرب ذلك النور. لم تمضِ أيام قليلة حتى تغيّر كل شيء. صار الصغار قبل الكبار يحدّقون في الصندوق ساعات طوال، يتنقلون بين الصور والكلمات، حتى نسي كثيرون أرضهم وأهلهم. أما زيد، فقد نظر طويلًا وقال في نفسه: "هذا النور ليس بنور… هذا ظلام يتخفّى في هيئة ضوء."
وهكذا يا صديقي، تبدو الأجهزة الذكية في زماننا، وخاصة الموبايل. جهاز صغير الحجم، لكنه يملك قوة لم يملكها ملوك ولا قادة. يعرض لك ما تشتهي، يخفي عنك ما يجب أن ترى، ويعيد تشكيل إدراكك للعالم حتى تعتقد أنك تعيش، بينما أنت تضيع عمرك في وهم.
تشبه في فتنتها ما أخبرنا به النبي ﷺ عن الأعور الدجال:
- الأعور يرى بعين واحدة ويُخفي الأخرى، فيريك نصف الحقيقة ويُغيب عنك نصفها الآخر. والهاتف كذلك؛ يريك مشاهد مختارة من حياة الآخرين، ويخفي عنك الواقع الحقيقي.
- الأعور يوهم الناس بالجنة والنار، والهاتف يوهمك بأنك تعيش حياة أجمل وأوسع، بينما أنت تضيع عمرك في فراغ.
- الأعور يفتن الناس بالكلمة والصورة، والهاتف أسرع وسيلة لنشر الكلمة والصورة، صدقًا كانت أم كذبًا.
لقد سرق هذا الجهاز أشياء عظيمة من حياتنا:
- سرق الأمومة: كم من أم تجلس ساعات أمام هاتفها، بينما طفلها ينتظر أن تلاعبه أو تسمع ضحكته.
- سرق الأبوة: كم من رجل يعود من عمله فيجد راحته في شاشة هاتفه، لا في حديث أسرته.
- سرق الطموح: شاب يضيع لياليه يتنقل بين فيديو وآخر، ويهدر أعوامًا كان يمكن أن يبني بها مشروعًا أو فكرة.
- سرق الحقيقة: إشاعة واحدة تُنشر عبر الهاتف، تهز قلوب الناس، وقد تثير فتنة بين أهل وبلاد.
إن الهواتف ليست شرًا مطلقًا، فهي أداة يمكن أن تُسخر في الخير كما تُسخر في الشر. المشكلة أنها تحولت من وسيلة نملكها، إلى سيد يملكنا. أصبحت ساعاتنا ودقائقنا وأحلامنا رهينة لإشعارات ورسائل وصور.
فلنكن مثل زيد. نظر الناس إلى الصندوق فانجذبوا، أما هو فقد رأى ما وراء البريق. أدرك أن النور الكاذب لا يغني عن نور الشمس، وأن الوهم مهما لمع يبقى وهمًا.
الهاتف عبد في يد صاحبه، فإن انقلب إلى سيدٍ عليه صار فتنةً تهلكه. لنجعل هواتفنا تخدمنا في الخير، لا أن نصبح نحن عبيدها، ونحافظ على أعيننا وقلوبنا مفتوحة على الحياة الحقيقية.
أضف تعليق