نجوتُ بما يكفي
لم أعد أُصلحُ ساعتي كلّما توقّف الوقت،
فالعمرُ يُقاس الآن بما لم أقله،
لا بما ضاع.
على حافة الأربعين،
أدركتُ أن بعض الوجوه…
تُشبه المرايا المكسورة:
تعكسك،
لكنها تجرح.
لم أعد ذاك الفتى
الذي يشتهي الصباحات بلهفةِ عصفور...
ولا الليلُ يغريني بأغنياتهِ القديمة.
كبرتُ،
وصارت الخطى أكثر وعيًا،
وأقلّ ضجيجًا.
في القلب متّسعٌ،
لكنه لا يُفرَشُ لكل عابر،
لم أعد أقرأ الرسائل القديمة،
ولا أُعيد ترتيب المقاعد لزائرٍ تأخّر.
فالمواعيد التي لا تأتي،
تعلّمك كيف تمشي دون ظلّ أحد.
نجوتُ،
لا كبطلٍ في قصةٍ عظيمة،
بل كمن خرج من الغابة
بندبةٍ خفيفة…
وقلبٍ يعرف الآن
أن لا كلّ نداءٍ يُجاب،
ولا كلّ غيابٍ خسارة.
أحببتُ...
نعم،
لكنّ الحب ليس كلّه نجاة،
بعضه اختبارٌ للذاكرة،
وبعضه درسٌ في البقاء.
لم أقل وداعًا لأحد،
لكنني تعلّمتُ الصمت
حين تُصبح الكلمات ثقيلة
كالأثقال على صدرِ الغريق.
لم أخسرهم،
فقط…
تقدّمتُ خطوة.
وأنقذتُ ما يمكن إنقاذه من روحي،
قبل أن أعود
إلى نفسي.
والآن،
في صباحٍ لا ينتظرني فيه أحد،
أفتح النافذة
لا ليراني أحد،
بل لأرى كيف تنضجُ الأشجار بصمت،
وكيف يُمكن للضوء
أن يمسّ القلب دون أن يُقال له: "ادخل."
لم أعد أبحث عن المعنى
في عيون الآخرين،
صار يكفيني
أن أجد طمأنينتي
في كوب كابتشينو هادئ،
وسيجارةٍ
يتسلّل دخانها كفكرةٍ قديمة،
تتشكّل ثم تختفي…
كأنها ما تبقّى من حوارٍ لم يُكمَل،
أو وعدٍ لم يُقال.
وفي ظلّ كتابٍ مفتوحٍ على سطرٍ يشبهني،
أتنفّس لا لأُكمل اليوم،
بل لأحفظ هذا السكون
كما يُحفظ الشعرُ في الذاكرة.
هناك حياة
بعد كلّ هذا الركام،
هادئة،
نظيفة من الضجيج،
كأنها عُمرٌ جديد
يبدأ من الداخل.
نجوتُ،
لا لأنني أقوى،
بل لأنني أخيرًا…
توقّفتُ عن السباحة في اتّجاههم،
وتعلّمت
أن أطفو وحدي،
نحو الضوء.
أضف تعليق