
لا تعد
لا تعدْ، يا صاحبي،
إلى زمنٍ علّقنا عليه قلوبنا مثل قناديل زيتٍ في المساء.
ذلك الزمن صار رمادًا،
وصار الحنينُ فخًّا،
وصار المكانُ غريبًا على خطانا.
لا تعد...
فالأشجار التي كانت تُظلِّلنا صارت حطبًا في شتاء الآخرين،
والوجوه التي أحببناها،
قد ذابت في مرايا الغياب،
والنوافذ التي انتظرناك عندها،
قد أغلقتها ريحُ السنين.
لا تعد...
حتى أنت،
لست أنت،
ذاك الطفل الذي كان يركض في الحقول صار شيخًا في قلبه،
يحمل حقيبة عمرٍ مثقلةٍ بالأسماء والوجوه والخرائط المكسورة.
لا تعد...
دع الذاكرة وردةً على طاولة الصباح،
لا تقطفها، لا تُمحِ لونها بالسؤال:
هل بقي شيء من الأمس؟
فالأمس وهمٌ،
والزمن لا يلتفتُ إلينا حين نمدّ أيدينا إليه.
امضِ...
امضِ إلى دربٍ لم تخطُه بعد،
وامتطِ حلمًا لم يزر نومك بعد،
في المدن البعيدة أشخاصٌ ينتظرون ابتسامتك دون أن يعرفوك،
وفي الطرقات قصائد لم تكتبها بعد،
وفي الأمكنة الغريبة دفءٌ آخر... قد يكون وطنك الذي لم تولد فيه.
لا تعد...
احتفظ بالذاكرة كما هي،
ولا تفسدها بزيارةٍ متأخرة،
فالزمن لئيم، كما قالوا،
والزمن لا يعيد شيئًا كما كان.
امضِ...
وامضِ...
فالحياة تمضي،
وأنت نهرٌ لا يعود إلى منبعه،
حتى لو بكيتَ عند حافته طويلًا.
أضف تعليق